فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} حكم الله في هذه الآية بتخليد الكافرين من {أهل الكتاب والمشركين} وهم عبدة الأوثان في النار وبأنهم {شر البريّة}، و{البريّة} جميع الخلق لأن الله تعالى برأهيم أو أوجدهم بعد العدم.
وقرأ نافع وابن عامر والأعرج: {البريئة} بالهمز من برأ.
وقرأ الباقون والجمهور: {البريّة} بشد الياء بغير همز على التسهيل، والقياس الهمز إلا أن هذا مما ترك همزة كالنبي والذرية.
وقرأ بعض النحويين: {البرية} مأخوذ من البراء وهو التراب، وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ وغطًا وهو اشتقاق غير مرضي، و{الذين آمنوا وعملوا الصالحات} شروط جميع أمة محمد، ومن آمن بنبيه من الأمم الماضية.
وقرأ بعض الناس {خير}.
وقرأ بعض قرأء مكة: {خيار} بالألف، وروي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية: {أولئك هم خير البريئة}، ثم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه «أنت يا علي وشيعتك من خير البرية»، ذكره الطبري، وفي الحديث: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية. فقال له: «ذلك إبراهيم عليه السلام»، وقوله تعالى: {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار} فيه حذف مضاف تقديره سكنى {جنات عدن} أو دخول {جنات عدن}، والعدن الإقامة والدوام، عدن بالموضع أقام فيه، ومنه المعدن لأنه رأس ثابت، وقال ابن مسعود: {جنات عدن} بطنان الجنة أي سوطها، وقوله: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} قيل ذلك في الدنيا، ورضاه عنهم هو ما أظهره عليهم من أمارات رحمته وغفرانه، ورضاهم عنه: هو رضاهم بجميع ما قسم لهم من جميع الأرزاق والأقدار.
قال بعض الصالحين: رضى العباد عن الله رضاهم بما يرد من أحكامه، ورضاه عنهم أن يوفقهم للرضى عنه، وقال أبو بكر بن طاهر: الرضى عن الله خروج الكراهية عن القلب حتى لا يكون إلا فرح وسرور، وقال السري السقطي: إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تطلب منه الرضا عنك؟ وقيل ذلك في الآخرة، فرضاهم عنه رضاهم بما من به عليهم من النعم، ورضاهم عنه هو ما روي أن الله تعالى يقول لأهل الجنة: هل رضيتم بما أعطيتكم؟ فيقولون: نعم ربنا وكيف لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من كل ما أعطيتكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا، وخص الله بالذكر أهل الخشية لأنها رأس كل بركة الناهية عن المعاصي الأمرة بالمعروف. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} {المشركين}: معطوف على {الَّذين}، أو يكون مجرورًا معطوفًا على {أهل}.
{فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أولئك هُمْ شَرُّ البرية} قرأ نافع وابن ذَكوان بالهمز على الأَصل في الموضعين؛ من قولهم: بَرأ الله الخلق، وهو البارئ الخالق، وقال: {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} [الحديد: 22].
الباقون بغير همز، وشدّ الياء عِوضًا منه، قال الفَرّاء: إن أُخذت البَرِيَّة من البَرَى، وهو التراب، فأصله غير الهمز؛ تقول منه: بَرَاه اللَّهُ يبرُوه بَرْوًا؛ أي خلقه.
قال القُشَيْرِيّ: ومن قال البَرِية من البَرَى، وهو التراب، قال: لا تدخل الملائكة تحت هذه اللفظة.
وقيل: البَرِيَّة: مِن بَرَيْت القلمَ، أي قَدَّرته؛ فتدخل فيه الملائكة.
ولكنه قول ضعيف؛ لأنه يجب منه تخطئة من هَمَز. وقوله: {شَرٌّ البَرِيَّة} أي شر الخليقة. فقيل يحتمل أن يكون على التعميم.
وقال قوم: أي هم شر البرية الذين كانوا في عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] أي على عالَمي زمانكم. ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل هذا من هُو شر منهم؛ مثل فرعون وعاقر ناقة صالح. وكذا {خَيْرُ البَرِيَّة}: إمّا على التعميم، أو خير بَرِيةِ عصرهم.
وقد استدل بقراءة الهمز من فضّل بني آدم على الملائكة، وقد مضى في سورة (البقرة) القول فيه.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: المؤمنُ أكرم على الله عز وجل من بعض الملائكة الذين عنده. قوله تعالى: {جَزَآؤُهُمْ} أي ثوابهم.
{عِندَ رَبِّهِمْ} أي خالقهم ومالكهم.
{جَنَّاتُ} أي بساتين.
{عَدْنٍ} أي إقامة.
والمفسرون يقولون: {جَناتُ عَدْنٍ} بُطْنانُ الجَنَّةِ، أي وَسَطُها؛ تقول: عَدَن بالمكان يَعْدِن (عَدْنا وعُدُونا): أقام. ومعدِن الشيء: مَرْكزه ومستقرُّه.
قال الأعشى:
وإنْ يُسْتضافوا إلى حُكْمِهِ ** يُضَافُوا إلى رَاجِح قَدْ عَدَنْ

{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} لا يَظْعَنون ولا يموتون.
{رِّضِىَ الله عَنْهُمْ} أي رضِي أعمالهم؛ كذا قال ابن عباس.
{وَرَضُواْ عَنْهُ} أي رَضُوا هم بثواب الله عز وجل.
{ذَلِكَ} أي الجنة.
{لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي خاف ربّه، فتناهى عن المعاصي. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين في نَارِ جَهَنَّمَ}
قيل بيان لحال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا وذكر المشركين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم فالمراد بهئلاء الذين كفروا هم المتقدمون في صدر السورة وفي ذلك احتمال أشرنا إليه فلا تغفل ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة لكن لتحقق ذلك لم يصرح به وجيء بالجملة اسمية أو يقدر متعلق الجار بمعنى المستقبل أو أنهم فيها الآن على إطلاق نار جهنم على ما يوجبها من الكفر مجازًا مرسلًا بإطلاق اسم المسبب على السبب وجوزت الاستعارة وقيل إن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلا أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة عرضية وستخلفها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقية وقد مر نظيره غير مرة {خالدين فِيهَا} حال من المستكن في الخبر واشتراك الفريقين في دخول النار بطريق الخلود لا ينافي تفاوت عذابهما في الكيفية فإن جهنم والعياذ بالله تعالى دركات وعذابها ألوان فيعذب أهل الكتاب في درك منها نوعًا من العذاب والمشركون في درك أسفل منه بعذاب أشد لأن كفرهم أشد من كفر أهل الكتاب وكون أهل الكتاب كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم مع علمهم بنعوته الشريفة وصحة رسالته من كتابهم ولم يكن للمشركين علم بذلك كعلمهم لا يوجب كون عذابهم أشد من عذاب المشركين ولا مساويًا له فإن الشرك ظلم عظيم وقد انضم إليه من أنواع الكفر في المشركين مما ليس عند أهل الكتاب وقد استدل بالآية على خلود الكفار مطلقًا في النار {أولئك} إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما هم فيه من القبائح المذكورة وما فيه من معنى البعد لبعد منزلتهم في الشر أي أولئك البعداء المذكورون {هُمْ شَرُّ البرية} أي الخلقية وقيل أي البشر والمراد قيل هم شر البرية أعمالًا فتكون الجملة في حيز التعليل لخلودهم في النار وقيل شرها مقامًا ومصيرًا فتكون تأكيدًا لفظاعة حالهم ورجح الأول بأنه الموافق لما سيأتي إن شاء الله تعالى في حق المؤمنين وأيًا ما كان فالعموم على ما قيل مشكل فإن إبليس وجنوده شر منهم أعمالًا ومقامًا وكذا المشركون المنافقون حيث ضموا إلى الشرك النفاق وقد قال سبحانه: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] وقال بعض لا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شر منهم كفرعون وعاقر الناقة وأجاب بأن المراد بالبرية المعاصرون لهم ولا يخفى أنه يبقى معه الاشكال بإبليس ونحوه وأجيب بأن ذلك إذا كان الحصر حقيقيًا وأما إذا كان إضافيًا بالنسبة إلى المؤمنين بحسب زعمهم فلا اشكال إذ يكون المعنى أولئك هم شر البرية لا غيرهم من المؤمنين كما يزعمون قالا أو حالا وقيل يراد بالبرية البشر ويراد بشريتهم بحسب الأعمال ولا يبعد أن يكونوا بحسب ذلك هم شر جميع البرية لما أن كفرهم مع العلم بصحة رسالته عليه الصلاة والسلام ومشاهدة معجزاته الذاتية والخارجية ووعد الإيمان به عليه الصلاة والسلام ومع إدخالهم به الشبهة في قلوب من يأتي بعدهم وتسببهم به ضلال كثير من الناس إلى غير ذلك مما تضمنه واستلزمه من القبائح شر كفر وأقبحه لا يتسنى مثله لأحد من البشر إلى يوم القيامة وكذا سائر أعمالهم من تحريف الكلم عن مواضعه وصد الناس عنه صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم إياه عليه الصلاة والسلام وكون كفر فرعون وعاقر الناقة وفعلهما بتلك المثابة غير مسلم ويلتزم دخول المنافقين في عموم الذين كفروا أو كون كفرهم وأعمالهم دون كفر واعمال المذكورين وفيه شيء لا يخفى فتأمل وقيل ليس المراد بأولئك الذين كفروا أقوامًا مخصوصين وهم المحدث عنهم أولًا بل الأعم الشامل لهم ولغيرهم من سالف الدهر إلى آخره وهو على ما فيه لا يتم بدون حمل البرية على البشر فلا تغفل.
وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع {البريئة} هنا وفيما بعد بالهمزة فقيل هو الأصل من برأهم الله تعالى بمعنى ابتدأهم واخترع خلقهم فهي فعلية بمعنى مفعولة لكن عامة العرب إلا أهل مكة التزموا تسهيل الهمزة بالإبدال والإدغام فقالوا {البرية} كما قالوا الذرية والخابية وقيل ليس بالأصل وإنما البرية بغير همو من البري المقصور يعني التراب فهو أصل برأسه.
والقراءتان مختلفتان أصلًا ومادة ومتفقتان معنى في رأي وهو أن يكون المراد عليهما البشر ومختلفان فيه أيضًا في رأي آخر وهو أن يكون المراد بالمهموز الخليفة الشاملة للملائكة والجن كالبشر وبغير المهموز البشر المخلوقون من التراب فقط وأيا ما كان فليست القراءة بالهمز خطأ كيف وقد نقلت عمن ثبتت عصمته مع أن الهمزة لغة قوم من أنزل عليه الكتاب صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}
بيان لمحاسن أحوال المؤمنين أثر بيان سوء حالالكفرة جريا على السنة القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب أو هو على ما أشرنا إليه سابقًا وقال عصام الدين إن قوله تعالى: {إن الذين كفروا} [البينة: 6] إلخ كالتأكيد لقوله تعالى: {وذلك دين القيمة} [البينة: 5] إذ لا تحقيق لكونها الملة القيمة فوق أن يكون جزاء المعرض هذا وجزاء الممتثل ذلك إلا أن ذلك اقتضى قوله تعالى إن الذين آمنوا إلخ وكأنه فصل لتخييل عدم المناسبة بين الجملتين لا في المسند إليه ولا في المسند {أولئك} أي المنعوتون بما هو الغاية القاصية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة {هُمْ خَيْرُ البرية} وقرأ حميد وعامر بن عبد الواحد هم خيار البرية وهو جمع خير كجباد وجيد.
{جَزَآؤُهُمْ} بمقابلة ما لهم من الإيمان والطاعات {عِندَ رَبّهِمْ جنات عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَدًا} تقدمت نظائره وفي تقديم مدحهم بخير البرية وذكر الجزاء المؤذن بكون ما منح في مقابلة ما وصفوا به وبيان كونه من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم وجمع الجنات وتقييدها بالإضافة وبما يزيدها نعيمًا وتأكيد الخلود بالأبود من الدلالة على غاية حسن حالهم ملا لا يخفى والظاهر أن جملة {هم خير البرية} [البينة: 7] خبر اسم الإشارة وكذا ما بعد وزعم بعض الأجلة أن الأنسب بالعديل السابق أن تعجل معترضة ويكون الخبر ما بعدها وفيه نظر وقوله تعالى: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئناف نحوي واخبار عما تفضل عز وجل به زيادة على ما ذكر من أجزية أعمالهم ويجوز أن يكون بيانيًا جوابًا لمن يقول ألهم فوق ذلك أمر آخر وجوز أن يكون خبرًا بعد خبر أو حالًا بتقدير قد أو بدونه وجوز أن يكون دعاء لهم من ربهم وهو مجاز عن الإيجاد مع زيادة التكريم وهو خلاف الظاهر ويبعده عطف قوله تعالى: {وَرَضُواْ عَنْهُ} عليه وعلل رضاهم بأنهم بلغوا من المطالب قاصيتها ومن المآرب ناصيتها واتيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {ذلك} أي ما ذكر من الجزاء والرضوان {لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية والفوز بالمراتب العلية إذ لولاها لم تترك المناهي والمعاصي ولا استعد ليوم يؤخذ فيه بالاقدام والنواصي وفيه إشارة إلى أن مجرد الإيمان والعمل الصالح ليس موصلًا إلى أقصى المراتب {ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72] بل الموصل له خشية الله تعالى: {وإنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] ولذا قال الجنيد قدس سره الرضا على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة وقال عصام الدين الأظهر إن ذلك إشارة إلى ما يترتب عليه الجزاء والرضوان من الإيمان والعمل الصالح وتعقب بأن فيه غفلة عما ذكر وعن أنه لا يكون حينئذ لقوله تعالى ذلك إلخ كبير فائدة والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية للاشعار بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية واستدل بقوله تعالى: {إن الذين آمنوا} [البينة: 7] إلخ على أن البشر أفضل من الملك لظهور أن المراد بالذين آمنوا المؤمنون من البشر وفي الآثار ما يدل على ذلك أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعًا «أتعجبون لمنزلة الملائكة من الله تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله تعالى يوم القيامة أعظم من منزلة الملك واقرؤوا {إن شئتم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية}».
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت «قلت يا رسول الله من أكرم الخلق على الله تعالى قال يا عائشة أما تقرئين {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية}» وأنت تعلم أن هذا ظاهر في أن المراد بالبرية الخليقة مطلقًا ليتم الاستدلال ثم أنه يحتاج أيضًا إلى ادخال الأنبياء عليهم السلام في عموم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لا يراد بهم قوم بخصوصهم إذ لو لم يدخلوا لزم تفضيل عوام البشر أي الذين ليسوا بأنبياء منهم على خواص الملائكة أعني رسلهم عليهم السلام وذلك مما لم يذهب إليه أحد من أهل السنة بل هو يكفرون من يقول به فليتفطن والإمام قد ضعف الاستدلال في تفسيره بما لا يخلو عن بحث ولعل الأبعد عن القيل والقال جعل الحصر إضافيًا بالنسبة إلى ما يزعمه أهل الكتاب والمشركون قالا أو حالًا من أنهم هم خير البرية وكذا يجعل الحصر السابق بالنسبة إلى ما يزعمونه من أن المؤمنين هم شر البرية وصحة ما سبق من الآثار في حيز المنع ثم الظاهر أن المراد بالذين آمنوا إلخ مقابل {الذين كفروا} [البينة: 6] لا قوم من الذين انصفوا بما في حيز الصلة بخصوصهم وزعم بعض أنهم مخصوصون فقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تسمع قول الله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جثت الأمم للحساب يدعون غرًا محجلين» وروي نحوه الإمامية عن يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب الأمير كرم الله تعالى وجهه وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك له عند الوفاة ورأسه الشريف على صدره رضي الله تعالى عنه وأخرج ابن مردويه أيضًا عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية {أن الذين آمنوا} [البينة: 7] إلخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين» وذلك ظاهر في التخصيص وكذا ما ذكره الطبرسي الإمامي في (مجمع البيان) عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال في الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وأهل بيته وهذا ان سلمت صحته لا محذور فيه إذ لا يستدعي التخصيص بل الدخول في العموم وهم بلا شبهة داخلون فيه دخولًا أوليًا وأما ما تقدم فلا تسلم صحته فإنه يلزم عليه علي كرم الله تعالى وجهه خيرًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم والإمامية وإن قالوا إنه رضي الله تعالى عنه خير من الأنبياء حتى أولي العزم عليهم السلام ومن الملائكة حتى المقربين عليهم السلام لا يقولون بخيريته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قالوا بأن البرية على ذلك مخصوصة بمن عداه عليه الصلاة والسلام للدليل الدال على أنه صلى الله عليه وسلم خير منه كرم الله تعالى وجهه قيل إنها مخصوصة أيضًا بمن عدا الأنبياء والملائكة ومن قال أهل السنة بخيريته للدليل الدال على خيريتهم وبالجملة لا ينبغي أن يرتاب في عدم تخصيص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالأمير كرم الله تعالى وجهه وشيعته ولا به رضي الله تعالى عنه وأهل بيته وان دون إثبات صحة تلك الأخبار خرط القتادة والله تعالى أعلم.
ثم أن الروايات في أن هذه السورة قد نسخ منها كثير كثيرة منها ما أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه عن أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ عليه الصلاة والسلام {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب...} فقرأ فيها ولو أن ابن آدم سأل وديا من مال فاعطيه يسأل ثانيًا ولو سأل ثانيًا فاعطيه يسأل ثالثًا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب وان الدين عند الله الحنيفية غير الشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره».
وفي بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم اقرأه هكذا ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلوا صحفًا مطهرة فيها كتب قيمة أن أقوم الدين لحنيفية مسلمة غير مشركة ولا يهودية ولا نصرانية ومن يعمل صالحًا فلن يكفره وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان الناس إلا أمة واحدة ثم أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين يأمرن الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده أولئك عند الله خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه.
أخرج ذلك ابن مردويه عن أبي رضي الله تعالى عنه وهو مخالف لما صح عنه فلا يعول عليه كما لا يخفى على العارف بعلم الحديث. اهـ.